إن رغبة جائزة نوبل بفصل الأدب عن السياسة ليست مُضلِّلة فحسب، بل مستحيلة أيضاً.
مُنح باتريك موديانو الأسبوع الماضي جائزة نوبل للآداب، مما أثار ردود فعل فورية متوقّعة، إذ سارعت صحيفة “الديلي بيست” إلى طرح السؤال التالي باستياء: “من هو باتريك موديانو؟” أما الكاتبة إما بروكس فقد قالت في مقالة نُشرتْ في صحيفة “الغارديان”: إن عدداً من أقران موديانو ـ فيليب روث خاصة ـ ربما هم أكثر جدارة منه.
لكن لجنة نوبل لا تبحث عن الأعمال الأدبية التي تجسد بشكل أفضل “الأدبيّ” كفئة موجودة مسبقاً، إنها أيضاً إحدى أهم المؤسسات الأكثر هيبة والمنخرطة في بناء ما يكوّن “الأدبيّ”، ثم تعمل على كوننة ذلك البناء كمعيار غير قابل للتشكيك يجب أن يطمح جميع الكتاب إليه.
تنوّع هذا المعيار نوعاً ما منذ أن تأسست الجائزة في 1901. لكنه تجمّد منذ الحرب العالمية الثانية في نموذج من الكونية الليبرالية، الإنسانوية والمثالية، التي تميل إلى التشديد على حالات الغموض الأخلاقية، والصراعات الفردية مع الضمير، وبنحو لا يمكن إنكاره، على التعليق اللاسياسي على شؤون العالم.
إن خيارات الجائزة، وطريقتها في شرح هذه الخيارات، حاضرة أيضاً خارج ميدان الأدب. ذلك أن أدب جائزة نوبل هو آلية لوصف “الجديّ” و”المثقف”. ويشي رأيها بإيمان غير إيديولوجي مقصود بانفصال الفكري عن الاجتماعي والسياسي، ويوحي بأن الذين يؤمنون بهذا الفصل الكلي فحسب هم من يجب أن يُنظر إليهم جدياً كمفكرين.
إن المصطلحات الأساسية التي تستخدمها اللجنة كي تكرس المؤلفين المُختارين هي الأكثر إفصاحاً هنا. بالنسبة لأورهان باموق، فقد نُوِّه بـ “بحثه عن الروح الكئيبة لمدينته الأصلية”، ومُدح تصوير جي م كويتزي لـ”انخراط الغريب المفاجئ”، وسُلّط الضوء على إبداع نجيب محفوظ لـ“فن سرد عربي يصلح للبشرية كلها”. تُشكّل مصطلحات كهذه الفهم الليبرالي العادي للأدبيّ كتعبير عن قدرة المؤلف الفريدة على إدراك العالم بوضوح وصدق. ولا يظهر أبداً أن هناك حقلاً بانياً للقوة أو العلاقات يُموضع فيه العمل نفسه.
فالعمل الأدبي هو بشكل متعال أسمى من تلك العلاقات، يَنْظر إليها بازدراء، ويُصْدرُ الحكم على النزاعات التافهة للمتحاربين المحليين. ولا يُظهر العمل الأدبي، أو يجسّد أو يعكس العلاقات الاجتماعية أو السياسية. بل يعلّق عليها دائماً من مسافة معينة. هكذا تم الاحتفاء بموديانو لأنه، رغم أن أحداث رواياته تجري في مدينة أوربية واحدة فقد “عبّر عن المصائر البشرية الأكثر استعصاء على الفهم”. أما ماريو بارغاس يوسا فقد مُدح بسبب “صوره الحادة عن مقاومة الفرد، وتمرده وهزيمته”. دوريس لسنج “أخضعت حضاره تعاني من الانقسامات للتمحيص”، أما هارولد بنتر “ فيدخل عنوة إلى الغرف المغلقة للقمع”.
إن المعاني التي ينطوي عليها هذا هي أن الفن لا يقدر على التعليق على الأحداث في العالم إلا إذا فصل نفسه عنها. وحين تختار لجنة نوبل كاتباً فإنها لا تناقش عمله الأدبي كتجل لقوى اجتماعية أو تاريخية متناقضة. ولا تقدمه كتصفية وإضاءة لشفرات اجتماعية معينة، بدلاً من ذلك، تدعم بوضوح شديد الصورةَ المثالية للكاتب كمصدر وحيد، ومحرّك للابتكارات الخلاقة، وككائن تعبيري تتجلى أصالته الحقيقية في أعمال فنية فريدة.
بالتالي، من الذي يقوم بالاختيار بالضبط؟ إن لجنة الجائزة مؤلفة من رجال بيض مدربين وفق التقاليد الجمالية الأوربية، ومقتنعين بالهدف الأخلاقي غير المتحيّز والتأملي للأدب. وهم يفضّلون الأعمال الأدبية التي تستقصي الحياة النفسية للفرد بطرق معقدة ومتناقضة. ويتجنبون التشديد على سمات للعمل الأدبي يمكن أن تُدرك بوضوح كسياسية، وأعني ملتزمةً بحقيقة وجهة نظر معينة حول مشكلة قابلة للتحديد يمكن أن يتم تداركها بأفعال إنسانية.
كانت لجنة الجائزة، منذ سنواتها الأولى، مكرسة لتأييد كتاب معروفين بحياديتهم إزاء شؤون العالم (في ١٩٠١، ذهبت الجائزة الأولى إلى سولي برودوم من أجل “مثاليته الرفيعة”)، وتواصل هذا التشديد في أقنعة مختلفة. وفي الوقت الحالي، يعني في الغالب الاحتفاء بمؤلفين يمكن أن يُقال عن أعمالهم إنها تتجاوز الظروف المحلية وتعلّق على الوضع البشري الأوسع.
وإذا ما استخدمنا مصطلحات باسكال كازانوفا، إن الحصول على جائزة نوبل هو الصعود إلى الفضاء الأدبي العالمي، والذي هو فضاء الاستقلالية المبعد عن أشكال التصميم التي تدمر الفن. يعني هذا أن نترك خلفنا كل تلك العوالم الأدبية المتخلفة المهتمة كثيراً بالصراعات السياسية، أو المُلْهمة منها.
إن العمل الأدبي الحاصل على الجائزة، الذي يبدي اهتماماً بصراعات كهذه، (فكّروا بمعالجة جي إم كويتزي للأبارتيد في جنوب أفريقيا)، يعبر عن ذلك الاهتمام بطريقة خاصة. إنه العمل الذي يغيظه ما دعاه تيموثي برينان “كليشيهات بلاغة ما بعد الحرب لصراعات العالم الثالث”. يفضل أن يشكك بأي نوع من الراديكالية المعلنة ويسخر منها. إنه ضد المقاومة العنفية.
إذا كان العمل الأدبي عن “مشكلات”، فإن تلك المشكلات تُقدم كمشكلات يمكن أن تنشأ في أي مكان. إن علاقة الكاتب معها مؤطرة كعلاقة تأمل وليس علاقة التزام. وغالباً ما يضمن صفة التأمل شعور الراوي أو المؤلف أو الشخصية بالعيش في منفى دائم، واغتراب، أو استلاب، ولا يعثر على الجماعة إلا في عمل صناعة الفن.
وُلد موديانو في فرنسا تماماً بعد الحرب العالمية الثانية، ويقول إن أعماله مشحونة بالذكرى المؤلمة للهولوكوست والاحتلال الألماني، وموضوعاته المتكررة هي الاستبداد والذاكرة والمعاناة. وكمثل موديانو، إن آخرين تم اختيارهم للجائزة (ومنهم شيموس هيني وأليس مونرو وغنتر غراس وتوني موريسون وغابرييل غارسيا ماركيز، وديريك والكوت) هم أدبيون بطريقة قابلة للمعرفة للجماهير الكوزموبوليتية المعتادة على نوع معين من التعبير الأدبي الرصين والمعقد والمتناقض و”الناضج”.
إن هذا الإيمان بالانفصال الجوهري للفن عن الإيديولوجيا هو إيديولوجي بحت، وينشأ داخل ظروف تاريخية معينة. ذلك أنّ المجال المتعالي واللاإيديولوجي للمسعى العابر للحدود والكوني وغير الإيديولوجي يخدم رأس المال العابر للقوميات وجنود مشاته بشكل جيد جداً. فالمشروع الأدبي الليبرالي لا يمكن أن يكون في الحقيقة أكثر إدارية: إنه يحيل إلى ذاته ومنخرط في ذاته ومعقد ومتناقض وتعددي. وبدلاً من أن يقاتل، يوجد. وهو لا يعادي أي شيء سوى ما يمكن أن يُؤوَّل كمعارضة دوغمائية.
وكما يحدث الآن، كان التقييم الساخر لأية معارضة دوغمائية سمةً مهمة للتلقي الأكاديمي والشعبي لثقافة الجائزة الأدبية. وهذا جزء مما يتحدث عنه بالتفصيل كتاب جيمس إنكلش المشهور “اقتصاد البرستيج”، الصادر في ٢٠٠٥. يقول إن رفض الجوائز الثقافية يفشل في تهديد مركزيتها النقدية والتجارية. وبالفعل، إن التشكيك بصلاحية الجوائز، أو رفض قبول واحدة، يساعد في توليد الاهتمام بنظام الجائزة الكلي ويضمن أهميته القائمة. وحين أرسل ناشر توماس بنشون كوميديّاً لاستلام “جائزة الكتاب الوطني” في ١٩٧٤ عن رواية “قوس قزح الجاذبية” حصل المهتمون بالأدب على مواد لأسابيع كثيرة.
يصح الأمر نفسه على لفتات رفض أو نقد تسليع الأدب. إن الجدل يبيع؛ وحَذَرنا من كيف يبيع الجدل يبيع أيضاً؛ إن هذا لانهائي. فحين يرفض الكتاّب الجوائز، أو يشككون بها، هم لا يخطون خارج النظام كله. بدلاً من ذلك ربما يعززون قيمتهم الخاصة، مفترضين أن كثيراً من النقاد والقراء يشاطرونهم حذرهم حول كيف تُتخذ قرارات الجوائز، وما الذي يهدف منح الكتّاب الجوائز إلى تحقيقه. هكذا، إن الموقف الوحيد الممكن هو الإقرار الساخر بالتواطؤ.
هذه سمة أساسية لعالمنا الأدبي، وللحساسية الليبرالية الأوسع في شكلها الحالي: أُضفيت قيمة كبيرة على علامات بأن المرء واع لكونه منخرطاً في أمور يمكن أن تُعدَّ مقلقة. لكن الإقرار الساخر بالتواطؤ والاستسلام للتوجّه الغريب لصناعة الجائزة للازدهار كلما ازداد نقدهما، يظلان جزءاً من الميدان الأدبي الذي يجب أن يكون هدفاً لاستقصائنا. لن نتعمق جداً في فهم ذلك الميدان إذا أوّلنا الجوائز الأدبية فقط كمناسبات لمشاعر معينة : تقديم شهادة، الانفصال، الاستقالة، الحيرة، الخ.
تلعب جائزة نوبل للآداب دوراً رئيسياً في نشر وكوننة الأعراف الليبرالية للأصالة والاستقلالية والتأمل المغترب والمتناقض. وتُكرّس أوربا كموضعٍ للتكريس الثقافي، وتصنع فضيلة من اللافعالية العملية للمفكر في وجه انعدام المساواة أو التفاوتات الهائلة. هذه هي السمات الرئيسية للجائزة. إنها توحي بعمق الصلة بين المثالية الليبرالية والثقافة الأدبية للتيار الرئيسي السائد.
إن الأدب، في النمط المثالي الدي تدعمه لجنة نوبل، تعبير عن الليبرالية الإنسانوية، والتي يمتلك فيها الكاتب العبقري، مقدرات رؤيوية فريدة، يفحص العالم من الخارج، و يحدد وقائعه، ويقدمها لتأملنا كفن.
إن المقاربة البديلة (التي تساعدنا في فهم موقف نوبل) مادية، تنظر إلى الفن على أنه بصورة رئيسية نتاج الظروف التي يبزغ فيها. حتى الأدب الذي يفهم نفسه كغير سياسي متورط في صراع ومليء بالتناقضات. إن موقف الرصد البعيد ليس هدف الفن الطبيعي؛ إنه اتجاه محدد ثُمِّن لأسباب معينة.
إذا كان موديانو يستحق مديح لجنة نوبل فإن هذا غير مهم. ما هو أكثر أهمية من أي فائز فرد هو رغبة اللجنة المضللة بعزل الأدب عن السياسة.
[ترجمة: أسامة إسبر]